عالجت كتب الدراسات الأدبيـة ذلك الموضوع القديم والجديد معاً، ألا وهو علاقة الأدب (أو الأديب) بالحيـاة. وعنـدمـا نقـرأ آراء النقاد البـارزين ومؤرخي الأدب، وروّاد المـدارس الأدبيـة المختلفـة، ندرك أنهم يقـتربون كثـيراً في مفاهيمهم العـامة، وان بدت الخلافات عميقة جداً في بعض الأحيان، كـما يحدث بين الكلاسيكيين والرومانسيين مثلاً، أو كـما يحدث بين الواقعيين والـرمزيين، لكن يظل الأدب دائما وأبداً وثيق الصلة بالحياة، سواء احتفي بالعقل كـما هو عند الرومانسيين، أو ركز على العاطفة مثلما يحدث لدى الرومانسيين، وسواء ارتبـط بالواقـع المحسـوس الملموس، أو اهتم بالمثاليات والغيبيات والسمو الروحي كالذي يفعله الرمزيون، فلكل أديب حياته الخاصة والعامة، وله معتقداته التي يؤمن بها.
ما نريـد أن نقـولـه أن الحيـاة واسعـة وعميقـة، وهي تشمل ما هو داخلُ "الذات " أو خارجهـا، وتنصهر في بوتقتهـا المظاهـر العـديدة، والثقافات المتنوعة، والتقاليد الراسخة، والمعتقـدات المتبـاينة، والحياة في حركة موارة دائبة، تزدحم بالأحداث، وترتج بالصراعات، وتضطرم بالانفعالات والتفاعلات الصاخبة، ومما لا شك فيه أن كل عصر يترك بصماته على البيئات، ويؤثر على الأفراد والجـماعات, وبإيجاز كبير فإن مادة الحياة غنية، بحيث يجد الأديب -أيّ أديب مهما كان منزعه- العناصر اللازمة لعمله الفني، وفقاً لمزاجه وتصوراته ومعتقداته وأهدافه.
الأديب إذن يستمـد من الحيـاة، وينهض أدبـه وينمو ويتحرك بـما فيه من عناصر تلك الحيـاة، باعتبـار الأديب كائنـاً حيـاً. ويؤثر ذلك الأدب تأثيراًَ متفاوتاً في الأفراد والجـماعات، فلكم سمعنا أو قرأنا عن أديب أو كتاب معين ساهم في دفع الحياة وتوجيهها، وكان سبباً في حركـة تغيـير كبـيرة، وقد يتناول التغيير أو التأثير مستويات ثقافية بعينها، أو يتناول القاعدة الشعبية العريضة ككل..
وإذا كان الأدب -كـما يقال- تعبير عن الحياة وسيلته اللغة، إلا أنه لا يقدم لنا صوراً فوتوغرافية، أو فعلاً حرفياً لتلك الحياة، "لكنه يعبر عنها أو يفسرها أو ينقدها، أو ينقل إلينا فهم الأديب للحياة"، فضـلاً عن عمليـة التأثير في المتلقي، إذ أنها هدف أساسي وإيجابي للأديب الجاد.
من هنـا نستطيـع أن نقـول إن الأديب الحق هو الأديب الذي يتخذ موقفاً عقائدياً أو فكرياً من المجتمع، ويؤثر في ذلك المجتمع، وهكذا نرى أن اختيار الأديب لموقفه الفكري أو لمضمون عمله الأدبي إنـما يستند على دعامتين، أساسيتين:
الأولى: المعتقد الفكري للأديب:
الثانية: التشخيص الصحيح لمشاكل المجتمع وسلبياته واحتياجاته والأسلوب الأمثل لحركته الشاملة.
الارتبـاط بين الدعامتين ارتباط عضوي، ومن ثمّ من الصعب الفصل بينهما، لما بـين الدعامتين من علاقة متبادلة، وتأثير متبادل أيضا.
والأدب الإسلامي يتواءم مع هذه المفاهيم الاجتماعية للأدب، بل إن هذه العلاقة بين الأدب والحياة، أو الأدب والمجتمع، علاقة واضحة في فكر الأديب المسلم، الذي يدرك أبعاد رسالته، ويعي تجاربه الحضارية، ويفهم التلاحم الوثيق بين المبادئ الإسلامية وحركة الحيـاة على مدار العصـور، ولقـد حفـل الفكـر الإسلامي بعناصر القوة والتجدد والحركة والابتكار طوال حقب التـاريـخ، ولـو لم يكن الأمر كذلـك لما كانت تلك الحركة العلمية، والـتراث الفكري، واتصال عمليـة الاجتهاد والتجـاوب مع ما يجدّ من أحـداث الحيـاة وصورها، ولما ساهمت هذه الأصول الحضارية في إثراء الفكر الغربي، وإثارة الحماسة لنهضته الحـديث، ولا ما فتحت الثقافـة الإسـلاميـة من قبل نوافذها وأبوابها أمام ترجمات التراث العالمي من اليونان والهند وفارس وغيرها، ولما قامت بحركة التقييم والتصحيح لما انحرف من هذا الـتراث القـديم، أو ضل الطـريق، ومن ثم أخـرجت فكراً إسلاميا مؤثراً متميّزا مازال يتألّق بروائعه، في شتى الفروع، حتى عصرنا هذا...
والأدب الإسلامي، تحت مظلة العقيدة الإسلامية الشاملة، يهدف أول ما يهدف إلى تكـوين الفرد المسلم، ثم المجتمـع المسلم، ويهتم بكـل صغيرة وكبيرة للأفراد والجماعات، ويتمثل أمراضهم الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ويثير في النفوس الرغبة للعمل الجاد، والبناء الصامد، ويجعل من ذلك العمل قيمة لا تقل عن العبادة، بل
ويجعل من التفكـير والتأمل أيضاً فرعاً من العبادة "لا عبادة كالتفكر"، وبمارس في الواقع فعل الخيرات والتمسك بالإيثار والحب والعـدل، ومحـاربـة الرذائل والمفاسد والمظالم، وصور الاستغـلال والتحلل والإباحية، ويربـط حياة الفرد، وحركة الجماعة بآداب ونظم وشرائع محكمة، هي مقياس الإيمان الصحيح، والطريق إلى مرضاة الله.
ذلك هو المضمون الفكري للأدب الإسلامي، سواء أكان قصة أو رواية أو مسرحية أو قصيدة أو فيلماً سينمائياً أو تليفزيونياً، ويخطئ من يظن أن الأدب الإسلامي الصحيح ينافق المجتمـع، أو يمالئ السلطات الجائرَة، أو يعتصم بالجمود والتخلف والرجعية الفاسدة، أو يتعسف حلولاً لقضايـا الناس وعللهم لا تمتّ إلى الواقـع بصلة، فالعلاقة بين المعتقدات وبين حركة الحياة كـما قلنا علاقة فهم وتبادل، وليست علاقة جهل أو تعسف.
والمسلم الحق لا يعيش في برج عاجي، أو يعتزل موكب الحياة الصاخب، فهو عامل وصانـع ومفكـر وعالم وطبيب ومهندس وفلاح وحرفي، وهو باحث اجتماعي، وقوة سياسية فاعلة، وبـاحث نفسي متعمق، والمجتمـع المسلم هو المجتمـع الذي يكـون لبناتـه أفـراد مسلمون، لكن هذا الذوبان الاجتماعي، لا يلغي شخصية الفرد المسلم، ولا يقضي على تميّزه أو فرديته، ورحم الله الشاعر الفيلسوف محمد إقبال إذ يقول في إحدى قصائده:
وهو في الحشد طليق.
هو في المجمع خـــالٍ:
هو في المجمع خـــالٍ:
حفل:فـريد ورفيــق
مثل شمع الحفل في ال
مثل شمع الحفل في ال
وإذا تعمّقنا هذا التصـور تعمقاً صحيحـاً، نجـد أن الأدب كقيمة اجتماعية، هو في الـواقـع قيمة إسلامية، نعم قيمة إسلامية من ناحية المضمون الفكري، ومن ناحية المجتمع الإسلامي المثالي الذي ينشده ذلك الأدب الإسلامي، ولا افتئات في ذلك، أو مجافاة لواقع الحَياة وحقيقتها، وعلى الرغم من نشوء تيَارات وفلسفات فكـرية مخالفة في المجتمعات الإسلامية، وفي المجتمعات الشـرقيـة أو الغربية، إلا أن التيار الإسلامي يبقى راسخاً صامداً، يواجه تلك النزعات المنحرفة، على ضوء التجارب التاريخية وَالمعاصرة، ومن خلال المـمارسات التي أفـرزت الكثـير من الكـوارث العـالمية، على صعيـد السياسة والأخلاق والاقتصاد، إنّ مجتمعا كالمجتمع الأمريكي تحدث فيه جريمة كل ثلاث ثوان، يعني أن ذلك المجتمـع والمجتمعات المشابهة له تقف على أبواب فاجعة كبرى، وهناك ملايين الأطفال الـذين يموتون جوعاً، في الـوقت الذي تقذف فيه الدول الغنية بملايين الأطنان من المواد الغذائية في البحار، للحفاظ على السعـر المرتفع لتجاراتها، وهناك الحروب العنصرية، والمجازر الطائفية في الهند وأفغانستان والفلبين وآسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا...
فليس بدعـاً أن يقف الأدب الإسلامي في هذا العصر، ويـدين بقـوة تلك المآسي المدمرة، ويحـاول -عبر الأشكال الفَنية المستحدثة- أن يفسر ويحلل وينقد ويؤثر، ويزرع الأمل في النفـوس، موحيا إليهم بالحياة الفاضلة التي دعـا إليها الإسلام، وإلى التجربة الحضارية الفذة لعصور الإِسلام المزدهرة.
فهل إذا أدّى الأدب الإسلامي هذه الرسالة يكون منافياً لروح العصر؟؟.
أو يكون مجافياً لاحتياجات الواقع الاجتماعي؟؟.
أو يكون متعسفاً وجائراً عندما يقدّم الحل الإسلامي؟؟.
إنّ صدق التعبير لا يعني الرضـا بالـواقـع المـرير، وتكريس ما هو كائن، والسير في ركـاب الانحـراف بحجة العصرية والحرية؟؟ إنّ تجسيد تلك المأساة على أسس ومقاييس إلهية موضوعية هو الصـدق، وإن شفاء الأرواح والقلوب والعقول هدف أسمى، وبداية صحيحـة، وإن إزالـة الأنقاض والخـرائب، تمهيداً لبناء صحي شامخ هو الحل، ولما يوظف الأدب الإسلامي الصحيح في تأديب العنصرية والطبقية والإباحية، لكنه دائماً وأبدا مشعل حق، ومبعث هداية وعامل بناء وسعادة ورفاهية وطاعة، وتآلف وتراحم.
إنّ الأوضاع الراهنة قد توحي بالحسرة بل واليأس أحياناً، فالفساد قد تسلح بمختلف الأسلحـة الحـديثة من فكـر وإعلام وفيالق مدربة وقوى خفية تعمل من وراء ستار، وأنوار النيـون الـبراقـة قد غطّت على سمات الفضيلة, والحب والمغـريـات قد غزت عقـول الناس وأرواحهم، فتحـوّلت الأشواق العلويـة إلى مطالب ماديـة، وملذات جسديه، واحتفت الآداب العـالميـة بالغـرائز وعنفها واشتعالها، وركزّت على إشباع الرغبات الرخيصة، وأنماط الحياة المترهلة الكسلى، والمتـع الزائلة، وأصبـح ذلـك كله هدفاً في حد ذاته. وهذا ليس بجديد على تاريخ البشرية، فالناظر في صفحات الماضي، سوف يجد مثيلاً أو شبيهاً له فيما مضى من حضارات ومدنيات وأحـداث، ولا يصـح أن نخـدع باختلاف العصر والأسماء والأزياء ووسائل الحرب والحياة الجديدة.
لكن يبقى أن يكـون الأدب الإسلامي كـما نقـول دائماً، على وعي كامل بنشوء تلك الظواهر الشاذة، وأسباب تلك الأَمراض الاجتماعية وأعراضها، وأن يكون لديه حصيلة كافيـة من المـمارسات والتجـارب ومختلف الثقافـات، حتى يلعب دوره الاجتماعي -أعني الديني- عن وعي وبصيرة، وأن يكون نداً لحملة الأقلام في أي موقع، محلياً كان أم عالمياً، ولسـوف يجد الأديب الإسلامي حافـزاً قويـاً، يحرّك مشاعره، ويجلي موهبتـه، وينشـط
فكـره: وليـترنم دائـماً بذلـك التعبـير القرآني الإلهي: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَه,ُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}. (الأنعام: 162- 163).
إن أحد نقادنا الكبار -د. عز الدين إسماعيل- يقول "مؤلفات كبار الكتاب تهدي إلى السلوك بأوسع معانيه، لأنها تكشف عن النظام الدقيق، وعن الحكمة والتوافق بين العناصر المختلفة، وألا تبدد الحياة أجزاء لا معنى لها. والعمل الأدبي يرتاد بنا الحياة ويخلق بيننا وبينها علاقات جديدة من الفهم والمعرفة...".
والآن أهناك شك في أن التـزام أدبنـا المعـاصر بالإسلام تشريف لهذا الأدب، وسمو بتلك المجتمعات التي عانت وتعاني مرارة القهر واليأس والحرمان منذ سنوات طويلة؟؟.
تعلموا العلم
روي عن معاذ بن جبل –رضي الله عنه- أنه قال:
"تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلم صدقة وبذله لأهله قربة.
وهو الأنيس في الوحدة والصاحب في الخلوة والدليل على الدين، والمصبّر على البأساء والضراء.
يرفـع الله به أقواما, فيجعلهم في الخير قادة سادة, هداة يقتدى بهم، أدلة في الخير، تقتصى آثارهم وترمق أفعالهم…
يبلغ العبد به منازل الأبرار والدرجات العلا، والتفكر فيه يعدل بالصيام, ومدارسته بالقيام...
به يطاع الله عز وجل، وبه يعبد, وبه يوحد ويمجد، وبه يتورع, وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام...
وهو إمام والعمل تابعه، يلهمه السعدية ويحرمه الأشقياء..."
د.نجيب الكيلاني
مجلة الجامعة الاسلامية العدد :62
شبكة المنهاج الاسلامية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق